فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)}.
و{قُلْ} هي خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وحين يخاطب الحق الرسول، فالخطاب أيضًا لأمته صلى الله عليه وسلم، فنقول نحن أيضًا: {قُلْ ياأهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 59].
و«نَقَم يَنْقِم» أي كره مني أن أفعل هذا، فلماذا تكرهون إيماننا يا أهل الكتاب؟ هل الإيمان مما يكره؟ وجاء الحق هنا بسؤال لا يقدرون على الإجابة عنه، فنحن آمنا بالله وبرسله وما أنزله علينا وما أنزل من قبل، فما الذي يُكره في هذا؟ وأبلغ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم اليهود أننا نؤمن بالله وبالرسل ومنهم سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام، فغضبوا منه كثيرًا. فكيف يكره أهل الكتاب إيمان المسلمين بالله؟
مثال ذلك عندما يدعوك إنسان إلى تصرف غير مستقيم أو إلى الذهاب إلى مكان مشبوه فترفض ذلك يكرهك هذا الإنسان، فتقول له: أتكره في سلوكي أن أكون مستقيمًا؟ ونعلم أن الإنسان الأمين هو ثروة لمن يعرفه والذي يستحق النقمة والكراهية هو الفعل الضار، أما الإيمان بالله فهو أمر محبوب لأنه يُعلم الإنسان الأدب مع كل خلق الله، ويعلم الإنسان الحفاظ على أعراض الناس، ويعلم الإنسان ألاَّ يعتدي على أموال ودماء الناس ولا يغتاب الناس، ولا يرتشي، وأن يخلص في العمل وألا يكذب في ميعاد، فأي شيء في هذا يستحق الكراهية؟
إذن، فمن يكره إنسانًا لأي سبب من هذا فهو كره بلا منطق، وكان من الواجب أن يكون سبب الكره سببًا للمحبة. وقد يأتي من يقول لك: ليس في فلان من عيوب إلا كذا.
وقد يورد سببًا معقولًا. ولكن لا يقول أحد أبدًا: لا عيب في فلان إلا أنه شهم؛ لأن الشهامة لا يمكن أن تكون عيبًا، كأن القائل قد أعمل ذهنه حتى يكتشف عيبًا، لم يجد إلا صفة رائعة، وقال عنها: إن كنت تعتبر هذه الصفة عيبًا فهذا هو عيبه. ويسمون ذلك من أساليب الأداء الأدبي عند العرب وهو تأكيد المدح بما يشبه الذم، فيقول قائل: لا عيب في فلان إلا كذا. وساعة يسمع السامع هذا يظن أن العيب الذي سيورده هو صفة قبيحة فيفاجأ بأنها خصلة جميلة. وبذلك يؤكد القائل المدح بما يشبه الذم: {قُلْ ياأهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ}.
أنتم تقولون: إنكم أهل كتاب وعندكم التوارة، وكان يجب أن تعلموا كيف يشذب الإيمان النفوس ويدفع عنها الشر؛ لأن لكم سابقة في الإيمان، فقد آمنتم بالله وبالرسل السابقين على موسى وآمنتم بموسى، والمسلمون آمنوا بالله وآمنوا بما أنزل إليهم وآمنوا بالرسل ومنهم موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم فكيف يُكره ذلك؟
وإن كان هذا مما يُكره فعلينا كمؤمنين أن نسألكم: لماذا تنكرون علينا ذلك؟ لا شك أنكم تنكرون علينا إيماننا بالله لأنها قضية غير واضحة في أذهانكم.
ولو كانت واضحة في أذناهكم ما كرهتم إيماننا. إذن فمسألة الإيمان بالله غير مستقرة في وجدانكم كأهل كتاب بدليل أنكم تكرهون من آمن بالله، ودليل ذلك أنكم أنزلتم الله منزلة لا تليق بكماله، فجسمتموه وقلتم: {حتى نَرَى الله جَهْرَةً} [البقرة: 55].
وقلتم: {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181].
وقلتم: {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64].
إذن فأنتم تكرهون لنا أن نؤمن بالله إيمانًا يليق بكمال الله؛ لأنكم لم تؤمنوا بالله صحيح الإيمان، ولو طابق إيماننا إيمانكم ما كرهتمونا. وكذلك لم تؤمنوا بالكتب بدليل أنكم حرفتموها. ولم تؤمنوا بالرسل لأنكم وقفتم من عيسى عليه السلام هذه المواقف. إذن فأنتم تنقمون منا وتكرهون أمورًا لا تُكره عند الطبع السليم، وهذا دليل على أن طبعكم هو المختل. وإذا كنتم تكرهون هذا الإيمان فماذا تملكون لمن تكرهون؟ لا قوة لكم لتفعلوا لنا أي شيء. ولكن حين يكرهكم الله فماذا يفعل بكم؟ إنكم حين تكرهوننا لا تملكون قدرة لعقابنا، لكن الذي يكرهكم هو الله وعنده القدرة المقتدرة لينتقم لنا منكم.
إذن فكراهيتكم لنا لا قيمة لها. وإذا كنا نجاريكم، والمجاراة لون من جدال الخصوم فماذا يعنيكم من كوننا مؤمنين؟
مثال ذلك أن يتهمك إنسان بأنك بخيل فتقول له: هب أنني بخيل فعلًا فماذا يعنيك من هذا؟ وهذا ما نسميه مجاراة الخصوم؛ لذلك نقول لأهل الكتاب: هب أن لكراهيتكم لنا رصيدًا وأنكم تستطيعون إيذاءنا، فلكم شر من هذا وهو عقاب الله، وسنرى ماذا سيحدث لكم عندما يكرهكم الله. وهو قادر على كل شيء. وعلى فرض أن إيذاءكم لنا هو شر، فالأكثر فاعلية هو عقاب الحق لكم؛ لأنه عندما يكرهكم يقدر أن يعاقبكم بما شاء. إذن فالصفقة- صفقة كراهيتكم لنا- خاسرة من ناحيتكم.
ولذلك قال الحق: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن...}. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)}.
أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من يهود، فيهم أبو ياسر بن أخطب، ونافع بن أبي نافع، وغازي بن عمرو، وزيد بن خالد، وازار بن أبي أزار، وأسقع، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ قال: أؤمن بالله: {وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرِّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} فلما ذكر عيسى جحدوا نبوّته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى، فأنزل الله: {قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا} إلى قوله: {فاسقون}. اهـ.

.سؤالان وجوابهما:

السؤال الأول: كيف ينقم اليهود على المسلمين مع كون أكثر اليهود فاسقين؟
والجواب من وجوه:
الأول: قوله: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسقون} تخصيص لهم بالفسق، فيدل على سبيل التعريض أنهم لم يتبعوهم على فسقهم، فكان المعنى: وما تنقمون منا إلا أن آمنا وما فسقنا مثلكم.
الثاني: لما ذكر تعالى ما ينقم اليهود عليهم من الإيمان بجميع الرسل وليس ذلك مما ينقم ذكر في مقابله فسقهم، وهو مما ينقم، ومثل هذا حسن في الازدواج.
يقول القائل: هل تنقم مني إلا أني عفيف وأنك فاجر، وأني غني وأنت فقير، فيحسن ذلك لإتمام المعنى على سبيل المقابلة.
والثالث: أن يكون الواو بمعنى مع أي وما تنقمون منا إلا الإيمان بالله مع أن أكثركم فاسقون، فإن أحد الخصمين إذا كان موصوفًا بالصفات الذميمة واكتسب الثاني شيئًا كثيرًا من الصفات الحميدة كان اكتسابه للصفات الحميدة مع كون خصمه مكتسبًا للصفات الذميمة أشد تأثيرًا في وقوع البغض والحسد في قلب الخصم.
والرابع: أن يكون على تقدير حذف المضاف، أي واعتقاد أنكم فاسقون.
الخامس: أن يكون التقدير: وما تنقمون منا إلا بأن آمنا بالله وبأن أكثركم فاسقون، يعني بسبب فسقكم نقمتم الإيمان علينا.
السادس: يجوز أن يكون تعليلًا معطوفًا على تعليل محذوف كأنه قيل: وما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم، ولأجل أن أكثركم فاسقون.
السؤال الثاني: اليهود كلهم فساق وكفار، فلم خص الأكثر بوصف الفسق؟
والجواب من وجهين:
الأول: يعني أن أكثركم إنما يقولون ما يقولون، ويفعلون ما يفعلون طلبًا للرياسة والجاه وأخذ الرشوة والتقرب إلى الملوك، فأنتم في دينكم فساق لا عدول، فإن الكافر والمبتدع قد يكون عدل دينه، وقد يكون فاسق دينه، ومعلوم أن كلهم ما كانوا كذلك فلذلك خصّ أكثرهم بهذا الحكم.
والثاني: ذكر أكثرهم لئلا يظن أن من آمن منهم داخل في ذلك. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {هل تَنْقِمُون}: قراءة الجُمْهُور بكسر القَافِ، وقراءة النَّخْعي، وابن أبي عَبْلَة، وأبي حَيْوَة بِفَتْحها، وهاتان القِرَاءتَانِ مفرَّعَتَان على المَاضِي، وفيه لُغَتَان: الفُصْحَى، وهي التي حَكَاهَا ثَعْلَب في «فَصِيحه»: نَقَم بفتح القَاف، يَنْقِم بِكَسْرها.
والأخرى: نَقِم بكسر القاف يَنْقَمُ بفَتْحِها، وحكاها الكَسَائي، ولم يَقْرأ في قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ} [البروج: 8] إلا بالفتح.
قال الكسّائِي: «نقِم» بالكسر لُغَةً، ونَقَمْتُ الأمْر أيضًا، وَنَقِمْتُهُ إذا كَرِهْته، وانْتَقَم اللَّه منه إذا عَاقَبَه، والاسم منه: النِّقْمة، والجمع نَقِمَاتٌ ونَقِمٌ مثل كَلِمة وكَلِمَات وكَلِم، وإن شِئْت سَكَّنت القَافَ، ونَقَلْت حَرَكَتَها إلى النُّون فقلت نِقْمة، والجَمْع: نِقَم، مثل نِعْمة وَنِعَم، نقله القرطبي وأدغم الكسَائِي لام {أهَلْ} في تَاء {تَنْقِمُون}، وَلِذَلِكَ تُدْغَمُ لام «هَلْ» في التَّاء والنُّون ووافقه حَمْزة في التَّاء والثَّاء وأبُو عَمْرٍو في {هَلْ تَرَى} في موضعَيْن.
قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ آمَنَّا}، مفعول لـ {تَنْقِمُون} بمعنى: تَكْرَهُون وتَعِيبُون، وهو استِثْنَاء مُفَرَّغٌ.
و{مِنَّا} متعلِّق به، أيْ: ما تَكْرَهُون من جِهَتِنَا، إلاَّ الإيمَان وأصل «نَقَمَ» أن يتعدَّى بـ «عَلَى»، نقول: «نَقَمْتُ عليْهِ كذا» وإنَّما عُدِّيَ هُنَا بـ «مِنْ» لِمَعْنًى يَأتي.
وقال أبُو البَقَاء: و{منَّا} مفعول {تَنْقِمُون} الثَّاني، وما بَعْد {إلاَّ} هو المَفعُول الأوَّل، ولا يجُوز أن يكُون {منَّا} حالًا من «أنْ» والفِعْل لأمْرين:
أحدهما: تقدُّمُ الحالِ على {إلاَّ}.
والثاني: تقدم الصِّلَة على الموْصُول، والتَّقْدِير: هل تَكْرَهُون مِنَّا إلاَّ إيماننا. انتهى.
وفي قوله: مَفْعُول أوَّل، ومفعول ثَان نَظَر؛ لأنَّ الأفْعَال الَّتِي تتعدَّى لاثْنَيْن إلى أحدهما بِنَفْسِها، وإلى الآخَرِ بحَرْف الجرِّ مَحْصُورة كـ «أمر»، و«اخْتَار»، و«استغْفَرَ»، و«صَدَّق» و«سَمَّى»، و«دَعَا» بمعناه، و«زَوَّج»، و«نَبَّأ»، و«أنْبَأ»، و«خَبَّر»، و«أخْبَر»، و«حَدَّث» غير مُضَمَّنَةٍ معنى «أعْلَم»، وكلُّها يَجُوز فيها إسْقَاط الخَافِضِ والنَّصب، ولَيْسَ هذا مِنْها.
وقوله: «ولا يجُوز أن يكُونَ حالًا» يعني: أنَّه لو تَأخَّر بعد {أن آمَنَّا} لَفْظَة {مِنّا}، لجاز أن تكون حَالًا من المصْدر المؤوَّل من {أنْ} وصلَتِها، ويَصِير التَّقْدِير: هل تكرهون إلاَّ الإيمان في حال كونه {منا}، لَكِنَّهُ امتنع من تقدُّمِهِ على {أنْ آمنَّا} للوجهين المذكورين.
أحدهما: تقدُّمه على {إلاّ} ويعني بذلك: أن الحال لا تتقدم على {إلاَّ}.
قال شهابُ الدِّين: ولا أدري ما يمنع ذلك لأنه إذا جعل {مِنَّا} حالًا من «أن» و«ما» في حيزها كان حال الحال مقدرًا، ويكونُ صاحب الحال محصورًا، وإذا كان صاحب الحال محصورًا وَجَبَ تقديم الحال عليه، فيقال: «مَا جَاءَ رَاكِبًا إلاَّ زَيْدٌ»، و«ما ضَربْتُ مَكْتُوفًا إلا عَمْرًا»، ف «راكبًا» و«مكتوفًا» حالان مقدمان وجوبًا لحصر صاحبيهما فهذا مثله.